.

.

 المصادفة جعلته يشهد ميلاد السينما المصرية كمخرج لأول أفلامها

استفان روستي.. عاش مليونيرا ومات فقيرا





أبو العز في قطار الليل، مسألش في سمارة، الوجيه رستم في تمرحنة، شفيق في سيدة القصر، زكي بشكها في المليونير، كوهين في حسن ومرقص وكوهين، شريف بيه في شاطئ الغرام، الأسطى علي في الورشة، سوسه في عنبر، اسماعيل في لا تذكريني.
من الذي لا يعرف صاحب هذه الأدوار المتميزة الذي أصبح واحداً من أبناء كل أسرة وبيت وشارع، وأصبح اسمه يجري على شفاه ولسان كل الناس بسهولة مذهلة، أدوار سينمائية خالدة وصلت به الى قمة الصدق، والعطاء والنجاح من البداية الى القمة.
من منا لا يذكر «الشرير الظريف»، أو «الكونت دي روستي» الذي أشاع الابتسامة على مدى سنوات عديدة وجمع بين أدوار الشر وأدوار الكوميديا، فكان يقدم اللونين معاً، ويمزح ما بين الشر والكوميديا فاستحق لقب «الكوميديان الشرير». 
قد يكون استفان روستي الذي اشتهر في أدوار الصديق النذل، والافاق المغامر الشرير، والبرنس، والمعلم، وزعيم العصابة الذي لا تفوته صغيرة أو كبيرة مع كل من حوله، هو الوحيد من بين الفنانين الذي أمتعنا بأفيهاته الكثيرة، فكان في مجموعة أفلامه يكرر لزمات شهيرة جداً، من منا ينسى دوره الثانوي في فيلم «غزل البنات» الذي احتشد فيه نجوم السينما المصرية، ومع ذلك لفت الأنظار اليه أثناء القائه بعض عبارات الاعجاب مثل «اشتغل يا خويا.. اشتغل» عندما كان العاشق النصاب «محمود المليجي» ينسج خيوط الخداع على بنت الذوات ليلى مراد، والافيه المشهور في فيلم «سيدة القصر» عندما قالت له فاتن حمامة بدهشة: أنت بتشتغل ايه، فرد عليها بصوت خافت «مهندس»، وفي الفيلم نفسه بمشهد آخر قالت له زوزو ماضي: «الله يخرب بيتك»، فرد عليها: «وبيتك يا ملك هانم»، و«في صحة المفاجآت» في فيلم «تمر حنة».
أما في فيلم «حبيبي الأسمر» فهناك العبارة المشهورة جداً «نشنت يا فالح» عندما أصابه محمد توفيق برصاصة عن طريق الخطأ، وغيرها من اللزمات التي لا تزال تردد على الألسنة، وتتداول في الأعمال الفنية حتى يومنا هذا.
نشأة صعبة



قليلون من يعرفون أن بداية استفان روستي هي نفسها بداية السينما، فعلى يديه ولد أول فيلم في تاريخ السينما المصرية، لم يكن ممثلاً، بل بدأ مخرجاً وكاتباً للسيناريو، ثم انتقل من وراء الكاميرا ليقف أمامها ويصبح أروع من جسد أدوار الشر التي ألبسها ثوب الكوميديا.
وكانت أهم أدوات استفان روستي في ذلك لزماته الشهيرة، التي تتردد على السنة الناس حتي يومنا هذا، وحياته كانت فصولاً درامية أشبه بالروايات، وهذه الحياة كان يمكنها تحويل صاحبها ببساطة الى شرير حقيقي، فقد كان مليونيراً لكنه حرم من المال، وكان والده سفيراً، لكنه حرم منه حتى أصبح شاباً، وعندما التقيا فرق بينهما حبهما لامرأة واحدة، وهكذا ظل استفان روستي طوال حياته مليونيراً لكنه فقير.
ونتيجة للظروف التي وجد نفسه فيها، كان على استفان روستي أن يعتمد على نفسه مبكراً، فقد ولد لأب كان يعمل سفيراً للنمسا بالقاهرة، كان قد التقى خلال اقامته في مصر مع سيدة ايطالية تتمتع بجمال اخاذ، فوقع في غرامها، وتزوجها، مما أثار غضب حكومة بلاده عليه، فأقالته من منصبه، وهددته أسرته بسحب لقب «كونت» منه، على أعتبار أنه كان من احدى الأسر الحاكمة.
وأمام ذلك لم يجد الوالد بداً من الرحيل عن القاهرة تاركاً وراءه زوجته التي أنجبت له ابنه استفان في السادس عشر من نوفمبر عام 1891، لتعيش في حي شبرا، وظل يبعث اليها بما يكفيها وابنها، الى أن انقطعت الصلة بينها وبينه، بسبب رفضها ترك القاهرة والذهاب للاقامة معه في النمسا.
وقررت الأم أن تتفرغ لرعاية أبنها الوحيد، بعد أن أمكنها الحصول على الجنسية المصرية، فغيرت من أسلوب حياتها، واندمجت تماماً في المجتمع المصري بعاداته وتقاليده، وألحقت ابنها بالمدارس المصرية حتى حصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة رأس التين بالاسكندرية.
ومضت سفينة الحياة بالأم وأبنها وسط بحار متلاطمة الأمواج، تعصف بها الأنواء، وضاقت عليهما الحياة شيئاً فشيئاً، فقررت الزواج من نجار ايطالي كان يعمل في محلات بونتر يمولي للأثاث، وتقدم لها، لكن استيفان روستي ذاق على يدي زوج أمه الكثير من الآلام والمتاعب لأنه كان يتفنن في ايذائه، فهجر بيت أمه، وخرج هائماً على وجهه بحثاً عن عمل.


البداية في المسرح
وأثناء سيره في أحد الشوارع، التي كان يهيم فيها بحثاً عن عمل، رأى اعلاناً عن حفلات ستقيمها فرقة عزيز عيد المسرحية، وتطلب الاستعانة فيها بممثلين جدد، فراح يسأل عن عزيز عيد لعله يجد لديه عملاً، ودخل المسرح وظل يحاول حتى تمكن من مقابلته، وأعجب عزيز عيد بشجاعته واتقانه اللغة الفرنسية، ثم ازداد اعجاباً به عندما اكتشف أنه يتقن الايطالية ويتحدثها بطلاقة، فقرر أن يضمه الى فرقته ويتعهده برعايته.
ومن هنا بدأت رحلة استيفان روستي مع المسرح وحظي برعاية كبيرة من عزيز عيد جعلته يحتل مكانة متميزة بسرعة، لكن آماله وطموحاته لم تكن تتوقف عند حد، فحاول الانضمام الى فرقة نجيب الريحاني، لكنه لم يجد بها الفرصة المناسبة.


البحث عن الأب
لكن استيفان روستي، ورغم اصراره وطموحه الكبيرين، كان يطوي نفسه على آلام مبعثها أنه لم يكن يملك المال الوفير الذي يساعده على السفر الى أوروبا للبحث عن والده، الذي لم يره في حياته، وكان ذلك هو الهم الأكبر الذي يؤرقه دائماً، فقد كان يتمنى لو أحس بحنان الأب.
لكنه لم ييأس، الى أن سنحت له الفرصة أثناء زيارة احدى فرق الباليه النمساوية لمصر، فذهب ليتعرف على أعضائها لعله يجد بينهم من يعرف شيئاً عن والده النمساوي، ومن عجيب المصادفات، أنه تعرف على احدى عضوات الفرقة التي كانت تربطها صلة قوية بوالده، فما ان أخبرها بقصته حتى أبدت له استعدادها لمساعدته في الوصول اليه، وصحبته بالفعل الى النمسا.
ولاحظ استيفان روستي أن راقصة الباليه النمساوية وقعت في غرامه، وبدأت تحيطه بشتى أنواع التكريم والرعاية منذ غادرا مصر، فما كان منه الا أن تظاهر بحبه لها، واكتشف أنها تحب الرجل الذي يغار عليها ويضربها، ويحطم رؤوس من يبدون اعجاباً بها، فمثل عليها دور الحبيب شديد الغيرة ببراعة فائقة، ولم يتوان في اظهار شهامته وغيرته لدرجة أنه تعرض للسجن أكثر من مرة بسبب هذه الغيرة المفتعلة.
3 أيام في السجن
وذات مساء كان يقضي بصحبتها السهرة في أحد الملاهي بباريس حيث كانا قد نزلا بفرنسا قبل التوجه الى النمسا، فتقدم أحد الحضور طالباً اياها للرقص، فما كان من استيفان روستي الا أن ثار وأمسك بزجاجة ويسكي وكسرها وهم بالانقضاض على الرجل الذي اختفى من أمامه بسرعة البرق، فهالها هذا المنظر وارتمت في أحضانه تقبله وهي تبكي وتقول له انها لم تكن تعرف أنه يحبها كل هذا الحب الجنوني.
لكن القصة لم تنته عند هذا الحد، فقد فوجئ استيفان روستي بالبوليس الفرنسي يقبض عليه بتهمة الشروع في قتل الرجل، الذي فر من الملهى ليبلغ الشرطة، ووضع استيفان روستي في السجن ثلاثة أيام انتظارا للتحقيق والمحاكمة، لكن صديقته الراقصة أمكنها باتصالاتها أن تفرج عنه بعد أن أقنعت الرجل بأن يشهد لمصلحة استيفان روستي.
وقررت الراقصة أن تغادر باريس وبصحبتها استيفان روستي لتقدمه لوالده في النمسا، لكن كانت هناك مفاجأة في انتظاره، فبعد أن التقى والده، الذي رحب به بشدة، فوجئ به يثور ويغضب ويطرده بعد أن اكتشف قصة الغرام التي كانت بينه وبين تلك الراقصة، فقد كان الأب يحبها، ويغار عليها بجنون، لكنها لم تكن تبادله الحب بسبب فارق السن بينهما.
رحلة جديدة
وغادر استفان روستي النمسا الى ألمانيا ليبقى قريباً من والده، الذي كان يقيم على حدود المجر القريبة من ألمانيا، في انتظار أن يموت الأب ويرث هو كل ثروته، وأضطر لأن يعمل في أعمال بسيطة كصبي جزار، وصبي حانوتي وبائع متجول حتى يدبر قوته، خاصة بعد أن ماتت صديقته الراقصة، في مستشفى الأمراض الصدرية.
وظل استفان روستي يعمل في هذه المهن البسيطة بالنهار، وفي الليل يعمل راقصاًً بالملاهي الليلية حتى الصباح، وفي هذه الأثناء التقى مع المخرج محمد كريم الذي كان يدرس الاخراج في ألمانيا، كما تعرف على سراج منير الذي ذهب لدراسة الطب، لكنه تركه واتجه الى دراسة التمثيل والسينما.
وامتد العمر بالأب، فقرر استفان روستي العودة الى القاهرة وقابل عزيز عيد، فأسند اليه دوراً بارزاً في مسرحية « خلي بالك من اميلي »، وراح يتنقل بين الفرق المسرحية الموجودة في ذلك الوقت، وانضم الى فرقة نجيب الريحاني التي كانت تقدم مسرحيات الفرانكو ـ أراب عام 1920، وعمل في عدة مسرحيات منها «العشرة الطيبة»، الى أن التقى بالفنان يوسف وهبي الذي كان عائداً لتوه من ايطاليا، وشرع في تأسيس فرقة رمسيس المسرحية عام 1923، واستعان به في تلخيص المسرحيات الأجنبية الى جانب عمله كممثل بالفرقة في مسرحيات «بيت الطاعة»، و"أولاد الفقراء»، و"الدفاع»، لكنه لم يستمر طويلاً، وعاد مرة أخرى الى فرقة الريحاني، ومنها الى فرقة اسماعيل ياسين التي استمر بالعمل فيها حتى رحيله، وكانت آخر مسرحياته «كل الرجالة كدة» مع تحية كاريوكا واسماعيل ياسين ومحمود المليجي عام 1964.
بداية السينما
وكان استفان روستي خلال هذه الفترة، بين عامي 1925 و1927 قد تعرف على عزيزة أمير، مؤسسة صناعة الفن في مصر، التي كانت قد أسندت الى المخرج التركي وداد عرفي مهمة اخراج وتمثيل فيلم «يد الله»، أول فيلم روائي طويل، وأول فيلم سينمائي مصري بالمعني المعروف للسينما الصامتة في ذلك الوقت، لكنه بدد أموالها دون أن ينهي العمل بالفيلم رغم الجهد الذي بذل فيه لمدة عام كامل.
فاستعانت عزيزة أمير باستفان روستي الذي كان قد تعلم الكثير عن فن السينما أثناء وجوده في أوروبا، كما عمل في فيلمين هناك احداهما نمساوي هو «البرج الهائل» والآخر الفرنسي «بوريدان»، وبذل محاولات جبارة لاصلاح ما أفسده وداد عرفي، وتطوع أحمد جلال لاعادة كتابة سيناريو الفيلم، الذي تغير اسمه الى «ليلى»، وعرض عام 1927ليقترن اسم استفان روستي بمولد السينما في مصر، الذي أصبح فيما بعد واحداً من كبار نجومها، رغم أنه لم ينل حظ تقديم أدوار البطولة المطلقة ولو لمرة واحدة، الا انه كان ذا بصمة خاصة في الأداء، خاصة أدوار الشر المخلوطة بالكوميديا، التي برع في تقديمها وتخصص فيها طوال حياته الفنية، التي شهدت جملته الشهيرة في فيلم «سيدة القصر» عندما قال لفردوس محمد: تسمحيلي بالرقصة دي، فردت عليه: «ما ترقص يا خويه، هوه حدا ماسكك»، فقال لها: «طب عن اذنك أروح أتحزم وأجيلك».
وفي مجال السينما تفجرت المواهب الكامنة لدي استفان روستي، فأخرج ستة أفلام هي «البحر بيضحك ليه» عام 1928، «عنتر أفندي» عام 1935، «الورشة» عام 1941، «ابن البلد» عام 1942، «أحلاهم» عام 1945، و«جمال ودلال» بطولة فريد الأطرش عام 1945، أيضاً، كما كتب سيناريوهات عدد من الأفلام المشهورة في تاريخ السينما المصرية، ومنها «قطار الليل»، «رقصة الوداع»، «قاطع طريق»، «ابن عنتر»، «ابن البلد»، «بلدي وخفة»، و«صراع الجبابرة»، فأصبح يمثل ويخرج ويؤلف ويترجم، ويضحك ويبكي، ويلعب طاولة على المقهى مع حسين رياض، وبلياردو في النادي مع يوسف وهبي، ويسهر يومياً ما بين منزل أنور وجدي وفريد الأطرش.
حب وزواج ونهاية
وكان استفان روستي يغدق على مظهره الكثير، وكان يتفنن في كيفية التعامل مع الجنس الناعم، فأصبح «دون جوان» شارع عماد الدين، لأنه اشتهر بخفة دمه ونقاء سريرته وصدق نيته.
ورغم أن اسمه اقترن بالعديد من المغامرات العاطفية فانه قطع كل علاقاته النسائية فجأة عام 1936 بعد أن التقى بفتاة ايطالية في احتفال كبير بمدينة بور توفيق، كانت يتيمة ومريضة، فرق لها قلبه، وأحبها وتزوجها، لكنها أربكت حياته، فقد كانت مريضة بشكل مستمر، ولم تنجب له الا بعد أن بلغ الخامسة والخمسين من عمره، وجاء ابنه مريضاً مثل أمه وتوفي بعد ثلاث سنوات، وكانت تلك صدمة عنيفة له فساءت حالته النفسية، واشتد عليه المرض، وبدأ يرفض كل ما يعرض عليه من أعمال سينمائية.
وفي أوائل عام 1964 تسربت في الأوساط الفنية اشاعة حول وفاة استفان روستي، الذي صادف وجوده في الاسكندرية لزيارة بعض الأصدقاء وهي الزيارة التي طالت لعشرة أيام، مما ساعد على انتشار الاشاعة وتأكيدها، وبينما أقامت له نقابة الممثلين حفل تأبين وتبارى الخطباء في ذكر محاسنه اذا به يقف بينهم بنفسه، فسقط كثير من الحاضرين مغشياً عليهم، بينما انطلقت الزغاريد بلا وعي من ماري منيب وزميلاته، وأقبل الجميع يهنئونه بنجاته من الموت المحقق.
لكن يبدو أن هذه الاشاعة كانت مقدمة للنبأ الحقيقي، فلم تمض أسابيع قليلة، حتى فارق استفان روستي الحياة في 26 مايو عام 1964، ولم يترك استفان روستي وراءه ثروة، رغم ما كان ينعم به من ترف في حياته، اذ لم يعثر في بيته الا على ثلاثة جنيهات كانت كل ما يملك، وذاقت زوجتة الأمرين من بعده حتى تتمكن من صرف معاشه من النقابة، وزاد الطين بلة سرقة سيارته بعد وفاته بأيام قليلة، لكنه ترك ما هو أغلى وأقيم من المال ترك 348 فيلماً شارك في تمثيلها واخراجها على مدى 40 عاماً، كان آخرها فيلم «آخر شقاوة» مع محمد عوض وزيزي البدراوي وأحمد رمزي وحسن يوسف، اخراج عيسى كرامة.
واذا كان استفان روستي، الذي يعتبر واحداً من الفنانين القلائل الذين لا يمكن تعويضهم، لأن أحداً لا يستطيع أن يقلده، وقامت شهرته على تمثيل أدوار «السنيد» لمشاهير النجوم ابتداء من أحمد جلال وأحمد سالم الى أنور وجدي وفريد الأطرش واسماعيل ياسين، فقد ترك بصمة لن تمحى من سجل السينما التي كان رائدها ومخرج أول أفلامها، ذلك هو استفان روستي الذي عاش مليونيراً ومات فقيراً.






المصدر : القبس

About Unknown

مدونة حكمات للمعلوميات مدونة حديثة انشئت عام 2013 ، تهتم بالتطوير المواقع و خصوصا البلوجر . أنشئت المدونة من طرف المدونة شباني عبدالصمد طالب جامعي ، طموح لتقديم الجديد و الحصري لكل متابعين على المدونة.
«
Next
رسالة أحدث
»
Previous
رسالة أقدم

Top